أنطوان كرباج الجبّار حيّاً وغائباً... وداعاً أيها العملاق! - شبكة أطلس سبورت

0 تعليق ارسل طباعة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أنطوان كرباج الجبّار حيّاً وغائباً... وداعاً أيها العملاق! - شبكة أطلس سبورت, اليوم الاثنين 17 مارس 2025 07:59 مساءً

شبكة أطلس سبورت - كيف نرثي قامةً بحجم أنطوان كرباج؟ كيف نختصر عمراً من الإبداع بكلمات؟ ألسنا نختزل شخصه متى ما قوْلبناه على حجم مرثيّة؟ رحل الكبير ذات ليلة باردة مقمرة؛ فليحتجب البدر يا ربّ، ولتصمت نسائم الربيع الآتي!

رحل الرجل الذي أبكانا وأدهشنا، والممثل الذي بلغ من العظمة شأواً حتّى ضاقت به المسارح والشاشات. كان ذاكرة فنية حيّة، عملاقاً من عمالقة المسرح، سليل جيل من الجبابرة، هارباً ببطشه وجبروته من علياء أوليمبوس. رجل لزمنٍ آخر، وجغرافيا أخرى.

لم يكن مسرح الأخوين رحباني ليكتمل من دونه. وهل يمكن تصوّر المشهد الفيروزي، بمجدها المسرحي وأدائها الدرامي المكثّف، من دون أنطوان كرباج؟ من كان ليستفزّ "غربة" في "جبال الصوان" لو لم يكن "فاتك"، الطاغية المتسلّط؟ من كان ليُخرج من الصبيّة أعظم ما فيها، عنفوانها وكبرياءها، ويحوّلها سيّدة لا تحني رأسها وإن ضربت سيوف العالم عنقها؟ من كان ليُهدّد ملكة بترا بابنتها، ويتحدّى إرادة الشعب التي تسكن ناطورة المفاتيح، ويبسط بطشه أمام "قرنفل" في "صح النوم"؟

قبيل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، كان كرباج قد رسّخ مكانته نجماً أول في التلفزيون. كان واحداً من مؤسّسي للدراما اللبنانية، قدّماً دور جان فالجان في "البوساء" لفيكتور هوغو (1974). وامتدّ إبداعه في الروائع العالمية المعرّبة مع مسرحيات "ماكبث" لشكسبير، و"الذباب" لجان بول سارتر، و"أوديب ملكاً" لسوفوكليس.

هكذا عاش وهكذا رحل، متسلّطاً، مستبدّاً بالحياة ومفارقاتها. وكانت الحياة تليق به، بكلّ تسلّطه وكبره "الماكسيمالي" وجموح إبداعه. هزّ جمود المسارح بصوته الجهوري، عملاقاً يعصف غضبه وبأسه، وسكن الشاشة أباً مرشداً، حكيماً جليلاً صارماً، إنساناً يفيض دفئاً تارةً، ويشتعل غضباً طوراً، ولم يكن يوماً عابراً أو عادياً.

غاب الوجه الذي تماهى مع أدواره حتى صار هو المسرح والمسرح هو. كان سيّد المسرح وراهبه، لا يهادن ولا يتنازل. وقف بوجه الخواء واستبدّ به، والذين يعرفونه عن كثب، أولئك الذين لم يعمِهِم نوره بل أدفأهم، عرفوه رجلاً انتقائياً في أدواره وإطلالاته، ورأوه يستشير رفيقة دربه لور غريّب بأدواره ويثمّن رأيها.

وأنطوان، طوني كما كان يحلو لزوجته لور مناداته، غاب في خيوط لوحاتها التي حمّلتها عذاب العمر وشقاءه؛ وفي الليل الحالك، على ضوء القمر الذي ارتبط بدفء صوته في مقدّمة "نحن والقمر جيران"، سار إليها، وحيداً، ملهوفاً، متعالياً فوق التعب وخيانه الجسد، يُنشد لها بكلّ ما في الأرض من عذوبة وشجن "يا لور حبّك قد لوّع الفؤاد".

وُلد أنطوان كرباج ليكون رجل مسرح. لم يتعامل مع الخشبة بوصفها مساحة للأداء، بل كانت عالمه الحقيقي، المكان الذي تنصهر فيه روحه مع الأدوار التي يحترفها. الانصهار، الذوبان، التلاحم، التجسّد. لعلّها تفي بالغرض! امتلك حضوراً طاغياً، يجمع بين الوقار والقوة، فطبع أجيالاً بأدواره في "ديالا" و"بؤساء" فيكتور هوغو، و"لمن تغني الطيور" و"أوراق الزمن المر" الذي فتح أبواب الدراما السورية أمامه، وكان "ماكبث" شكسبير ولمع نجمه في "أنتيغون" سوفوكليس، وعلى موسيقى زياد الرحباني قدّم "المارسيلياز العربي" من تأليف محمد الماغوط، وتشاطر سينما الأورلي قبلها مع نضال الأشقر في مسرحية "أبو علي الأسمراني"، وبعدها مع سلوى القطريب في "بنت الجبل" وهذا غيض من فيض الرجل المتسامي فنّاً وعبقريّةً!

وأنطوان كان عاصفةً تهدر على الخشبة، لا يتقمّص أدواره بل يحياها، كأنّ جسده سلالة من المشاعر، كأنّ صوته شُعلة تمتدّ لتضيء قفر المسارح يوم يغيب الكبار. لم يكن ممثلاً، بل كتيبة ممثّلين. لم يكن صوتاً، بل جملة أصوات؛ كائن مسرحيّ خالص، يتماهى مع الشخصيّة حتى يكاد يمحو الحدود بين الكلمة والواقع.

وحضوره كان طاقة متفجّرة، كتلك اللحظة النادرة التي يصبح فيها التمثيل فعل خلق، حين ينهض الدور من جماد الورق وبهتانه ليصير لحماً ودماً، روحاً تتنفّس، نبضاً يخترق الحواس. لم يكن يقف على الخشبة، بل يهيمن عليها، يفرض سلطانه من دون عنف، بصدقٍ عارٍ يجتاحنا فنرتعد لهوله. عاصر الكبار والمبتدئين، وكان راعياً ليافعي الفنّ الشاقّ، متواضعاً وسخيّاً.

كيف نودّعه، وهو من علّمنا أن العظماء، شأنهم شأنه وشأن "بربر آغا"، لا يموتون؟ كيف نودّع من كان الصوت الذي إذا تكلّم، صمتت بعلبك وهياكلها وآلهتها، وأرهفت الآذان سمعها؟ كيف نودّع من كان الهيبة إذا وقف، والرهبة إذا صرخ، والحنان إذا همس، والصخرة بوجه الريح، والنور في عتمة الرُّكح؟

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق